إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أرسله بدين الهدى ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فأنار به سبل الخير، ودروب الرشاد، فأمات الكفر والضلالات، ومحا الزيغ والهوى، وأحيا السنن، وأمات البدع، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
إن تلاوة القرآن وتدبره هي أعظم أبواب الهداية ؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم ، ويدل ويقود إلى فعل الصالحات وترك المنكرات ، ويملأ القلب إيماناً ومعرفة بالله ، ويرغِّب في الفوز والظفر بدار الكرامة ، ويخوِّف ويحذِّر من الخسارة والحرمان في دار الخزي والندامة ، وهو مشتمل على كثير من العبر والأمثال التي يضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ، والتالي للقرآن بتدبر وتعقل يدفعه ذلك للاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيُعَظِّم الله ويُوَحِّده ويؤدِّي صلاته وزكاته ويحج فرضه ويصوم شهره إضافة إلى مسابقته ومنافسته بالنوافل والقربات يرجو رحمة الله ورضوانه ..
وتلاوة القرآن وتدبره والعمل به هو ديدن المؤمنين ووصْف أولياء الله الصالحين وسبب هداية الله لعباده المقربين، وترك تدبره والعمل به هو وصْف العصاة المعرضين وسبب ضلال الضالين والمستكبرين ؛
قال تعالى منكراً عليهم ذلك: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: 24] ،
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 66-68] أي: أنهم لو تدبروا القرآن لأوجب لهم الإيمان ولَمَنَعَهم من الكفر والعصيان، فدل ذلك على أن تدبر القرآن يدعو إلى كل خير ويعصم من كل شر .
ووصف الله القرآن بأنه أحسن الحديث ، وأنه تعالى ثنى فيه من الآيات وردد القول فيه ليفهم ، وأن جلود الأبرار عند سماعه تقشعر خشية وخوفاً
وأخبر عن صالح أهل الكتاب أن القرآن إذا تلي عليهم يخرون للأذقان سجداً يبكون ويزيدهم خشوعاً وإيماناً وتسليماً ، فقال سبحانه: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107-109] .
ثم مع هذا فإن الله تعالى قد حذَّر عباده من الإعراض عن القرآن الكريم أشد التحذير ، وبيَّن لهم خطورة ذلك وما يجنيه من فعل ذلك من الإثم والوزر الذي يحمله معه يوم القيامة بسبب إعراضه عن القرآن وعدم تلقيه بالقبول والتسليم ،
يقول الله تعالى : {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه: 99ـ 101] ،
فإذا كان القرآن ذكراً للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته فيجب علينا تلقيه بالقبول والتسليم والانقياد والتعظيم ، وأن نهتدي بنوره إلى الصراط المستقيم ، وأن نُقبِل عليه بالتعلم والتعليم والعمل بتوجيهاته لننعم بطيب العيش في هذه الحياة ولنحظى بشفاعته بعد الممات وفي المعاد ، وأن مقابلته بالإعراض والصدود أو بما هو أخطر من ذلك من الإنكار والجحود فإنه زيغ وضلال وكفر وطغيان يستحق فاعله العقوبة في الدنيا بضنك العيش والشقاوة والحرمان ، ويوم القيامة ينسى ويحشر في النار مع العميان ، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123ـ 126] .
فحريٌّ بكل مسلم ولاسيما في هذا الشهر المبارك والموسم العظيم أن يعظم القرآن الكريم ويقدره حق قدره ويتلوه حق تلاوته ؛ بتدبر آياته والتفكر والتعقل لمعانيه وبالعمل بما يقتضيه .
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : ((فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامعٌ لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله ، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه ، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة ، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمةٍ بغير تدبر وتفهم ، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن)) [مفتاح دار السعادة].
وكلامه رحمه اللهوافي الدلالة عظيم الفائدة ، ومن كان في قراءته للقرآن على هذا الوصف أثَّر فيه القرآن غاية التأثير وانتفع بتلاوته تمام الانتفاع وكان بذلك من أهل العلم والإيمان الراسخين ؛ وهذا هو مقصود القرآن وغاية مطلوبه ،
ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ((وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ هِمَّةَ حَافِظِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ)) [مجموع الفتاوى لابن تيمية].
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا ، وعلِّمْنا منه ما جهلنا وانفعنا بما علَّمْتنا ، وارزقنا حسن تلاوته وتدبره ووفقنا للعمل به واتباع أمره واجتناب نهيه ، وارفع به درجاتنا يوم العرض عليك ، وأعذنا اللهم من الغفلة والإعراض عنه.